غزة/ PNN / تقرير إنعام فروانة - تجلس ليلى القرناوي ( 29 عامًا) نازحة في منطقة المشاعلة بدير البلح، تحمل في أحشائها جنينًا في شهره التاسع. تجلس قرب فرن الطين الذي أنشأته بجهدها، محاولةً أن تُعيل أسرتها في زمن قاسٍ سلبها كل شيء.
توضح ليلى وعلامات التعب بادية على محياها : “منذ أن انهدم بيتنا في مخيم البريج – البلوك 9 – اضطررت مع عائلتي للنزوح إلى خيمة، بعد أن فقدنا كل شيء في الحرب، البيت ومصدر رزق زوجي . لم يكن أمامي إلا أن أبدأ مشروعًا صغيرًا بخَبز الخبز لأهالي المخيم، حتى أستطيع إعالة زوجي وأطفالي الثلاثة.”
وتتابع وهي تحاول التقاط أنفاسها: “زوجي وأطفالي يستيقظون مع الفجر للبحث عن النايلون والخراطيم البلاستيكية والكراتين وقطع الملابس البالية لأستخدمها في إشعال النار، فالحطب بات غاليًا ولا قدرة لنا على شرائه. أعاني من ضيق في التنفس، والدخان الأسود الناتج عن حرق هذه المواد يخنقنا جميعًا. ومع حرارة الجو، أشعر أن الهواء ينقطع عن صدري، وفي الليل لا أستطيع النوم من شدة السعال، فأقضي الساعات أتقلّب من الألم وضيق التنفس.”
ظهرها المثقل بالحمل، ويداها المتشققتان من أثر العمل والحرارة، يجعلان ساعات الجلوس الطويل على الأرض أشبه بعذاب يومي مع قيامها بخبز اكثر من 250 رغيف يوميا. ومع نهاية النهار، بالكاد تقوى على الوقوف من شدة التعب.
بعينين يملأهما الخوف تهمس "الطبيبة أخبرتني أن الجنين يعاني من نقص الأكسجين، وقد يواجه مشاكل في القلب. دقات قلبه ضعيفة، ووزنه لا يتجاوز كيلوغرامًا ونصفًا فقط بسبب قلة التغذية، بينما من المفترض في الشهر التاسع أن يكون وزنه ثلاثة كيلوغرامات. وأكدت الطبيبة أن الجنين بعد الولادة يجب أن يُعرض مباشرةً على طبيب قلب، لأن حالته ناتجة عن استنشاق الدخان المتصاعد من الفرن."
وتختتم بصوت مكسور: “الطبيبة حذّرتني من الجلوس قرب النار و الخَبز على الفرن، لأن ذلك يؤثر عليّ وعلى الجنين، فالدخان يجعلني أختنق ويزيد من أوجاع صدري، وقد أتعرّض لمضاعفات خطيرة خلال الولادة. لكن لا خيار آخر أمامي… فكل ما أفعله هو لأجل أن نحيا.”
زوج مصاب
أسماء العطار (27 عامًا)، النازحة من مخيم جباليا، أمام فرن الطين في مخيمها المؤقت في منطقة المواصي غرب خان يونس. تحمل في أحشائها جنينًا في شهره السادس، وتكدُّ بيديها المتشققتين لتخبز ما يسدّ رمق أطفالها الأربعة وزوجها المصاب.
تلفح حرارة النار وجهها، فيما يخنق الدخان الأسود المتصاعد من حرق النايلون والملابس البالية أنفاسها، لكنها تواصل العمل بصمتٍ مثقلٍ بالألم. قدماها المتورمتان وظهرها المنهك لا يمنعانها من الوقوف ساعات طويلة، لأن الجوع لا ينتظر، والطفل الذي يحيا في رحمها يحتاج الحياة وسط الرماد.
وتقول العطار: "بعد إصابة زوجي وعجزه عن العمل، لم يكن أمامي خيار سوى أن أتحمّل المسؤولية. بدأت مشروعًا صغيرًا الخبز على فرن الطين، حتى أستطيع تأمين لقمة العيش لعائلتي. ورغم حملي والإرهاق الذي يثقل جسدي، فإنني مضطرة للاستمرار، فلا بديل آخر يضمن لنا البقاء."
وتتابع بصوت منهك وهي تمسح العرق عن جبينها قرب النار المشتعلة: "أستيقظ كل يوم عند الساعة السادسة صباحًا، وأبدأ بتجهيز الفرن مستخدمة الشرائط والنايلون والملابس والاحذية القديمة بدلًا من الحطب، بعدما وصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى 12 شيكل، ولا أستطيع شراءه. الدخان الأسود يملأ المكان، فنختنق وأشعر أحيانًا أنني لا أستطيع التنفس، لكنني أواصل العمل مجبرة."
وتضيف بحسرة: “لم أتخيل يومًا أنني، وأنا حامل، سأعمل وسط الدخان والحرارة بهذه الطريقة لاخبز اكثر من 300 رغيف يوميا. لكن الحرب دفعتنا لفعل المستحيل كي نبقى على قيد الحياة.”
وتضيف وهي تتفقد قدميها المتورمتين:
“الجلوس الطويل على الأرض والرمال يرهقني، فتنتفخ قدماي ويؤلمني ظهري، وفي نهاية اليوم أفقد الإحساس بهما من شدة التعب. ومع ذلك، أغسل بيديّ وأطبخ على النار وأتحمّل كل هذا، لأنني مضطرة لنواصل الحياة أنا وزوجي وأطفالي.”
خطورة على الجنين
من جانبه، يؤكد الدكتور ماهر سعدي عجور، استشاري أمراض النساء والعقم وأطفال الأنابيب، فرضت ظروف الحرب على الكثير من النساء الحوامل ظروفًا قاسية وغير مألوفة، من بينها الجلوس لساعات طويلة أمام أفران الطين المشتعلة.
ويشير عجور إلى أن التعرّض المباشر للحرارة المرتفعة، سواء من الشمس أو النار، يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة جسم الحامل، وهو ما قد يسبب الدوار والدوخة والإرهاق، خاصة عند نقص السوائل في الجسم. كما أن تكرار ارتفاع حرارة الجسم ينعكس سلبًا على الجنين والأم معًا، ولا سيّما في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، وهي المرحلة التي تتشكّل فيها الأعضاء الحيوية للجنين، مما يزيد من احتمالية حدوث تشوهات ومضاعفات صحية.
الغازات السامة
ويضيف أن الخطر الأكبر يتمثل في استنشاق الغازات السامة الناتجة عن احتراق البلاستيك والملابس والأحذية، التي يضطر الأهالي لاستخدامها بدلًا من الحطب بسبب ارتفاع سعره. موضحًا أن احتراق هذه المواد يطلق غاز أول أكسيد الكربون، وهو غاز سام يمنع وصول الأكسجين إلى دم الأم والجنين.
ويؤكد عجور أن نقص الأكسجين يؤدي إلى تعب دائم، وصداع، ودوخة، وآلام في أسفل البطن والظهر، وقد يتسبب أيضًا في انخفاض وزن الجنين ونقص كمية الدم الواصلة إليه. ويكشف أنه خلال متابعته لحالات عديدة مؤخرًا، لاحظ ظهور تشوهات واختلالات في نمو الأجنة نتيجة التعرّض لهذه الظروف القاسية.
ويختتم بالتنبيه إلى ضرورة توخي الحذر، خصوصًا في المراحل الأولى من الحمل، وتجنّب استنشاق الدخان والغازات السامة قدر الإمكان، مع أهمية مراجعة الطبيب فور ظهور أي أعراض غير طبيعية.
أرقام صادمة
الجدير ذكره وفقا لمدير وحدة المعلومات في وزارة الصحة بقطاع غزة زاهر الوحيدي، أن المؤشرات الصحية للعام الحالي تعكس واقعًا شديد القسوة حيث يوجد في قطاع غزة ما يقارب 50,000 امرأة حامل يواجهن مخاطر متزايدة في ظل تدهور الخدمات الصحية ونقص الرعاية الأساسية للأمهات، كما سجّلت وزارة الصحة 2,869 حالة إجهاض منذ بداية العام، بينما بلغت نسبة الأطفال المولودين بوزن أقل من 2500 غرام نحو 8.9%، وهي معطيات تُنذر بآثار خطيرة على صحة الأمهات والأطفال في المدى القريب والبعيد، وتوضح هذه الأرقام الصادمة أن المعاناة الصحية للنساء والأطفال ما زالت مستمرة رغم توقف القصف وغياب أصوات الحرب، فتبعاتها الكارثية ما زالت حاضرة بقوة.