الشريط الاخباري

الرحيل الذي لا ينتهي: النزوح المتكرر بين الجرح الإنساني والخذلان الدولي بقلم : د. منى أحمد ابو حمدية أكاديمية وباحثة

نشر بتاريخ: 13-09-2025 | أفكار
News Main Image

*مدخل: النزوح كقدر متكرر* 

في أدبيات القانون الدولي يُعرّف النزوح القسري بأنه انتقال الأفراد من أماكن إقامتهم الأصلية بسبب الحروب أو الكوارث أو الاضطهاد. لكن في الواقع الفلسطيني والعربي، لم يعد النزوح حالة استثنائية، بل تحوّل إلى نمط حياة يتكرر كالكابوس. النازحون يرحلون مرة تلو الأخرى، حتى باتت كلمة “المؤقت” مرادفاً لـ”الدائم”، والخيمة عنواناً للوجود الإنساني المعلق بين الأرض والسماء.

وهنا تتجلى المأساة: إنسان بلا أرض ثابتة، وذاكرة مثقلة بالرحيل، وجسد منهك من حمل البيت على الظهر بدل أن يسكنه.

*المعاناة المستمرة: نزيف الجسد والروح*

النزوح ليس مجرد حركة فيزيائية من مكان إلى آخر؛ إنه اقتلاع كامل من الأمن والاستقرار. الدراسات الإنسانية تشير إلى أن النازحين، خاصة في حالات النزوح المتكرر، يعانون من ارتفاع معدلات الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، إضافة إلى أعباء جسدية تتمثل في سوء التغذية، الأمراض الجلدية، وانتشار الأوبئة الناتجة عن ضعف البنية الصحية.

لكن ما لا تحصيه الإحصاءات هو ذلك الشعور باللاجدوى، ذلك الحزن الذي يتراكم في العيون حتى يغدو أثقل من الأمتعة. النازح يترك وراءه منزلاً ربما لم يكتمل بناؤه، مدرسة كان ابنه يتعلم فيها، أو قبراً لوالده لا يستطيع زيارته. كل تفصيل يتحوّل إلى جرح مفتوح في الروح.

*افتقار إلى أساسيات البقاء*

من منظور حقوق الإنسان، الحق في الماء والغذاء والمسكن والرعاية الصحية يُعد من أبسط الحقوق غير القابلة للتصرف. غير أن مخيمات النزوح تكشف انهيار هذه الحقوق بالكامل. الماء غالباً ملوث أو شحيح، الغذاء غير كافٍ أو غير متوازن، والأدوية في أحسن الأحوال محدودة.
النازحون لا يطالبون بالكثير؛ إنهم يبحثون عن سرير يقيهم الأرض الباردة، عن بطانية ترد عنهم صقيع الليل، وعن لقمة خبز تحفظ الحياة. لكنّ عجز الأنظمة الدولية والإغاثية يجعل حتى هذه المطالب البسيطة ترفاً بعيد المنال.

*الخيام: مأوى هشّ وظلّ مفقود*

الخيمة في المخيال الإنساني رمز للجوء المؤقت، لكنها في الواقع صارت شاهداً على طول النزيف. معظم الخيام مهترئة، لا تقاوم برد الشتاء ولا تحمي من حرّ الصيف، وبعضها يتساقط مع أول عاصفة. الأدهى من ذلك أنّ عدداً كبيراً من النازحين لا يجد حتى هذه الخيمة، فيبيت في العراء، أو يحتمي تحت شجرة، أو يختبئ بين أنقاض مبانٍ مهدّمة.

هكذا يغدو “المأوى” فكرة لا أكثر، بينما يظلّ الجسد عارياً أمام قسوة الطبيعة والظلم معاً.

*كبار السن… الذاكرة المثقلة بالرحيل*

إذا كان النزوح يثقل أجساد الأطفال والنساء، فإنه بالنسبة لكبار السن جرح مضاعف. هؤلاء الذين عاشوا النزوح الأول قبل عقود، يجدون أنفسهم يواجهون النزوح مرة أخرى في كهولتهم.

كبار السن لا يحملون فقط أوجاع الجسد المرهق، بل يحملون ذاكرة البيوت القديمة، الأشجار المثمرة، الحقول، صور الأبناء الذين فقدوا. إنهم يروون الحكاية وهم يسيرون ببطء، وكأن كل خطوة هي عودة إلى نزوح سابق لم يندمل بعد.

النزوح بالنسبة لهم ليس حدثاً آنياً، بل سلسلة من الاقتلاع المتكرر، إلى أن يغدو العمر كله رحلة بلا استقرار.

*الأطفال… الطفولة المنهوبة*

لا يمكن الحديث عن النزوح دون التوقف عند معاناة الأطفال. فالأبحاث تؤكد أن الأطفال النازحين أكثر عرضة للحرمان التعليمي، واضطرابات السلوك، وفقدان الإحساس بالأمان.

الطفل النازح لا يعرف معنى البيت، ولا يستوعب فكرة المدرسة، بل يكبر في عالم تحكمه الخيمة والرصاص وصفارات الإنذار. وهنا تكمن المأساة الأخطر: جيل ينشأ بلا ذاكرة سوى النزوح، وبلا أفق سوى الخوف.

*الخاتمة: نزوح بلا نهاية*

إن مأساة النزوح المتكرر ليست مجرد إحصائية تُذكر في تقارير الأمم المتحدة، ولا ملفاً إغاثياً مؤقتاً، بل هي قضية وجودية تكشف عجز النظام الدولي عن حماية الكرامة الإنسانية.

النازحون لا يسألون فقط: إلى أين نذهب؟ بل يسألون: هل للعالم ضمير يسمع وقع خطواتنا المرهقة؟

وحتى تُجاب هذه الأسئلة، يظل النزوح جرحاً مفتوحاً، يصرخ في وجه العالم: “الإنسانية ليست بخيمة… ولا بفتات معونات، بل بقدرة الإنسان على أن يعيش بكرامة على أرضه.”

 

شارك هذا الخبر!